سلة الجحود ؟

اضغط على الصورة لعرضها كاملة.








كنا أطفالاَ صغار لا يهمنا سوى اللعب بمجموعة من الألعاب القديمة التي تقع في فناء البيت الثالث علي يمين منزل من يرعانا. نذهبُ إلي هناك في تخفي عند منتصف الليل, ونضحك بشدة عندما ترتفع بنا الأراجيح أو أثناء هروبِنَا من أصحاب المنزل, رغم أنهم لم يمانعوا يوماَ في وجودنا , ولكن ليست الحياة بضحكة تدوم أو ابتسامة مطلقة,  فما أصعبُها تلك اللحظات التي مرت علينا لأجد مقلتيها تغدق بدموع غزيرة دافئة دون نبرةٍ لصدى صوت كيانها أو صياحها المرجو, تلكَ صفاء بعد الحادثة  ..  البنت اليتيمة التي أعيش معها ..  بالمناسبة نحن لم نكن كأي طفلين أرادهما الله أن يكونا يتيمين فصاحب المنزل يسمح لنا بالالتحاق بالمدرسة شرط أن لا يكون هناك دروس خصوصية أو مصاريف زائدة..
في ذلك اليوم عندما فقدت صفاء القدرة علي الكلام والنطق حاولت أن أستنجد بأحدٍ ولكني لم أجد ,,  فمن سيغيث نداء طفلان مشردان الآن ولم لم يعد يأبه فيه أحدً بهذه الظاهرة فأصبح وجودها عادةَ كجدران البناء المشقق بين الطرقات علي مر سنوات وأجيال لم ولن يتغير..
أول ما  سألته  لنفسي يومها ..  من أين سأحصل علي مصاريف  العملية ؟, وبالكادِ يتوفر لنا قليلاَ من كسيرات الطعام والشراب بالمصاريف التي نجنيها نحن من عملنا في بيع الأشياء القديمة أو حتى المناديل الورقية .. اضطررت أن أعمل بأعمالِ إضافية كي أجمع المال الكافي وكنت من حيناَ لأخر أعدها بأنها ستتكلم مجدداَ ولن ندع فقد قليلاَ  من المالِ يغتال طفولتنا ويحرمنا من قضائها معاَ في فعل ما نحب..

قررت أن أعمل في زراعة النباتات , وحصلت علي البذور من عم محمد صاحب الحديقة  التي بجوارنا ويوم إنتاجها التفت السعادة وجوهنا ..

حقاَ لكم تمنيت كثيراَ لو كان لي أختاَ مثل صفاء ولكن ما كنت أعلمه جيدا أنا كنا أشقاء الإحساس, وهي تدرك إني كنت أفعل هذا من أجلها فقط..

حملت سلةَ جميلةَ صنعتها  هي لي وذهبت أبيعها في طريقي وكان هذا أول ما حدث من سلسلة اتهامات وجهت لي .. :-

بادرت بسؤال لإحدى السيدات التي تقف علي زاوية من طريق :
-  يا سيدتي هلاَ تشترين مني هذه ؟

نظرت لي وقتها نظرة غريبة وقالت لي :
 
كيف تجرأت يا ولد ! ! ..  تبيعها لي وهي سوداء متسخة كملابسك الرثة البالية ويديك المليئة بالقاذورات الكريهة وثوب جسدك المرقع .. ورائحتك التي تشعرني بالاشمئزاز ,,آآآآآآآآه ,,  أغرب عن وجهي الآن .. ألااااااااااااا تعلم من أنا ! !

بادلتها بتلك النظرات ولكن كانت نظراتي لها بعين تحدي لطفل في نظرها أحمق لم يتجاوز الثامنة من عمره...
 -
خلقنا من طين وسنعود إليه .. يا سيدتي .. ولست أشحذ منكِ مالاَ ولا حتى طلبت جاهاَ أو سلطاناَ.. إنما عملت بجد كي أحصل عليها ,, و..

-
صه يا فتي سئمت مبرراتكم الخبيثة..

 أمَسكت وقتها بحقيبة جلدية ثمينة  ! ! .. وانهالتْ عليَ ضرباَ بها حتى ابتعدتُ عن وجهها وسمعتها تهمهم قائلةَ :  أتدري كم كلفتني هذه الحقيبة .. مئات الدولارات إنها من جلد الثعابين الأصلي أيها البغيض ’’ وبالطبع  سأرميها فكيف لي بحملها بعد أن امتلأت بجراثيمك أيها الطفل المقزز لأفُ متي يبعدون هؤلاء الحثالة عن شوارعنا ....

وقتها تألمت كثيراَ ولكن لم يكن هذا إلا ليزيدني إصراراَ وعزماَ وتصميماَ علي بيع ما جنيناه  ,, و مر حوالي خمسة أعوام وجمعت نصف المبلغ المطلوب لإجراء العملية وساعدتني مدرستي العزيزة في فتح باب التبرع  في مدرستنا ..
وبفضل من ربي شفيت صفاء ونطقت اسمي مرة أخري ,, أخذتها من يديها وسرنا معاَ كأن الدهر كله أصبح ملكاَ لنا ,, استوقفتني صفاء قليلاَ حتى تسلم علي صديقتها  التي تعالج في نفس المستشفى ,, كانت فتاة جميلة رقيقة باسمة شلت قدماها ووالدتها التي تجلس بجوارها علي عكساَ منها تماماَ  تظهر علي وجهها علامات من الضيق والحزن والضجر والتأفف عند رؤيتنا فهي ثرية علي ما يبدوا ,,
لا أدري لماذا انتابني وقتها لبرهة أني رأيتها من قبل  ,, ولكن أين ؟هذا ما لا أتذكره ..
أبلغ من العمر الآن أربعين عاماَ ,, أكتب لكم قصتي ليس لأني أحب أن أضيع وقتي في أن أخط معاناة حياتي فما عندي الآن يكفيني شكراَ لله علي نعمته ,,
عندما عدت إلي مصر أرض وطني ومهدي في إجازة صغيرة من العمل في احدي الشركات في البحرين لأزور شقيقتي صفاء بعد أن رزقها الله بابن جميل أسمته علي اسمي " أحمد مررتٌ بنفس الطريق الذي استوقفتني فيه المرآة من قبل أكثر من ثلاثين عاما..
فوجدت سيدةً عجوز فسارعتُ لمساعدتها فقابلتني بوجه عابس يداعب بين تشققاته الكآبة والحزن سألتني ما اسمك ؟؟ فأجبتها  " أحمد "
فنظرت لي وقالت بأسى:  كان ليكون لي ابناَ في مثل عمرك لولا أن أخذه الله مني, والسبب حقيبة غالية الثمن أتعرف توفي ولدي في هذا الطريق منذ زمن.. وقبل يوم من وفاته قابلت طفلاَ أحمق فقير في هذا المكان, ولأن أبويا ربياني علي أن لا أنظر لمن أقل مني مالاَ..
ضربته عندما قال لي انه ما كان يشحذ مني  , وأصررت يومها علي أن أعلم صغيري كيف عليه أن لا يعطي وجهاَ لهؤلاء الفقراء .. وفي اليوم التالي جئت به إلي هذا المكان  , الغريب أن حقيبتي كانت في نصف الطريق ,, فجري أحمد ليحضرها لي قبل أن أتكلم بشيء ,  وبقدرة الله مرت سيارة مسرعة لتدهسه أمام عيناي فيلتقط أنفاسه الأخيرة وقطرات دمه تنزف بين يدي وتتناثر علي وجهي ..
فقط كل ما أتمناه أن يسامحني هذا الطفل الصغير !!
وقتها ذرفت دموعاَ علي ما قالته وأجبتها بصوت مختنق :" أماه أنا علي يقيناَ تام بأنه سامحكِ وإلي الأبد "
نظرت لي بلطف ومن ثم تبدلت علامات وجهها عبوساَ وقالت ومن سمح لكَ أن تتدخل في حياتي.. هيا أغرب عن وجهي الآن لا أريد منك مساعدة, وأبعدتني بضربة بحقيبتها الغير ثمينة وسارت.. إلي أين ؟  لا أعلم .. !!

تمت

5-11-2009



هناك تعليق واحد: